ثالثا : الوعي الجمالي والديني والاجتماعي (فن المدينة).

فنون العصور الشبيهة بالكتابية.


قلنا في ما سبق أن الوعي الديني قد تطور وبشكل متدرج، وبعلاقة مطردة قد تطور (الجمالي) كذلك، وان كليهما قد خلق نوعا من الوعي الجديد، من خلال تداخلهما، وهو الوعي الاجتماعي، بمعنى الاتفاق، وإعلان هذا الاتفاق في تطبيقات وممارسات يومية، وقد تطورت هذه الممارسات بتداخل كل من معطيات الوعي(الجمالية –الدينية)، لينتج عنها وعيا آخر وهو الوعي الاجتماعي.
لقد أثبتت هذه التجمعات الدينية في أماكن العبادة (فن العمارة)، صلاحيتها في الفكر الاجتماعي الأول، ولهذا فرضت ديمومتها وتفعيل كل من(الجمالي- والديني) لتكثيف جهودهما في- الإفصاح عنها بشكل مناسب - سد الثغرات المتعلقة بالاعتقاد، بما يتناسب مع المستوى الأدائي لهذه التجمعات.
وبهذا الشكل يمكن أن يقال أن الفن قد ارتبط بالديني والاجتماعي بوصفهما معطيان متداخلان منذ هذه اللحظة، بمعنى أن بنية الأشكال ما عليها في هذه المرحلة إلا أن تلبي الحاجات الاجتماعية، التي ترد وبشكل (روحي) أو غيبي لتحل في مواد (مجسمة) أو معمولة بطريقة (الرسم)، مع التصرف في بنياتها الشكلية، لتسمو أو ترتقي لما هو ابعد من هذا الواقع الفيزيقي. لان (الديني) كان غالبا ما يراقب إنتاج (الجمالي). وبفعل سلطة(الاجتماعي). 
غير أن الأخير لم يكتفي بهذه المرحلة فحسب، بمعنى لم يكتفي بترك (الديني) بوصفه ضرورة أن يكون وحده فاعلا في مسرح الوجود، وإنما سرعان ما انقسمت معطيات الجمالي لإثبات ذاته بوصفه ضرورة حتمية، حتى وان كان كلا من (الديني) و(الاجتماعي) يشكلان ضاغطا على بنية المنجز(الجمالي)؛ ولذا انقسمت جهود الفنان للاشتغال وفق منظومات جماعية وأخرى فردية. وهنا نجد الانقسام الأول للجمالي في آليات اشتغاله فقد كان الفنانون يعملون ما هو للمعبد وما هو للاستخدام الشخصي أو اليومي كالخزف والأواني وغير ذلك، أو لنقل أنهم كانوا يعملون ما هو مؤدلج وما هو ليس كذلك.
إن في الأداء اليومي للممارسات التعبدية أثرا بالغ الأهمية، في تأكيد العقود الاجتماعية أو في تأكيد فعل التفاهم مع الأخر وقبول الرأي، بمعنى أن الاتفاق هنا في حد ذاته هو بنية اجتماعية، وإلا فما الداعي لقبول الإنسان في هذه المرحلة بأن يقدم للآلهة النذور، هل عملية تقديم النذور هي من الممارسات الفردية، أم أنها اجتماعية.
وهنا ماذا يعني أن يوضع الإناء في وسط المعبد، ليكون حاكيا عن الفعل المستمر، الذي يقوم به الإنسان تجاه الآلهة، هل يعني أن بنية (الجمالي) قد سُيرت لصالح (الديني- الاجتماعي) أم أنه هو المحرك وهو الفاعل في وجود (الديني والاجتماعي)؛ وفيما لو عدنا إلى مفهوم الوعي بما هو وعيا كليا قبل أن يكون مخصصا، لوجدنا أن النشاطات التي ظهرت أول الأمر(كأثر مادي) قد تمثلت في منجزات فنية، ومن ثم حرك الفن معطياته شيئا فشيئا حتى وجد الاشتغال الرمزي، وهكذا تم كشف القوى الغيبية، وبالتالي تمثيلها في منجزات فنية حتى تعبد في الأماكن العامة (الاجتماعية).
وفق هذه المعطيات ألا يمكننا القول أن (الجمالي) هو الفاعل. يقول (هاوزر)[1] إن الكهنة في هذه المرحلة هم الذين يحركون الفن، أو أنهم يقودونه لتنفيذ أعمالهم. وإذ لا يمكن بالنسبة للباحث قبول مثل هذا الرأي دون تحفظ، لأنه وفقا لما تقدم أجد (الجمالي) هو الفاعل. ولكن قد يكون هذا الرأي صحيحا فيما إذا قلنا أن الكاهن في (بداية الأمر) هو النحات أو الفنان ذاته، ولعل تطور سلسلة الوعي تخبرنا بأن مثل هؤلاء الناس يشكلون القلة، أو هم ندرة، والشاهد على ذلك الآثار المكتشفة، إذ لم يتم العثور على ورش تنفيذ الأعمال بعيدة عن المعابد، ثم وبعد أن يتطور المجتمع بالفعل وتصبح (المدن)، نجد أن الفن أو الجمالي خاضعا لسلطة (الديني) و(الاجتماعي)[2]، متمثلا في الكاهن.
والآن لو تساءلنا السؤال الآتي: ترى من أين لنا أن نعرف ما هو (ديني) وما هو(اجتماعي) في هذه المراحل الموغلة في تأريخ الإنسانية، من أين (أدركنا) وجود كلا نوعي المعرفة- دينية واجتماعية- الم يكن ذلك بفضل (الجمالي)، قد ذكرنا سابقا الإناء النذري في مدينة الوركاء، وهو خير تمثيل عن (الديني)، وسنذكر الآن (الزقورة) في نفس المدينة.
هذا المعبد لـ(إنانا)، هل نقبل أن يكون الأصل لهذا المعبد هو (الدكة) أو المصطبة التي كان يوضع عليها النذور فيما سبق، هل ننظر إليها على أنها موجود ظهر هكذا من دون (تدخل) الجمالي[3]، وعليه ثبت أن الجمالي فاعلا حتى في تطور بنيتي (الديني) و(الاجتماعي). وما ذلك إلا لأنه – أي الجمالي – هو الوسيط الأمثل لتمثيل الأفكار، ومن هذه الأفكار هي المعتقدات والعقود.
إذن فـ(الجمالي) هو الكاشف منذ البداية عن مقومات الحضارة بتطور الوعي فيها، وتعدد تخصصاته إلى ما لانهاية من التخصصات الجزئية الأخرى، فالمرجح هنا أن اللغة بما هي مادة ثانية للتفاهم، قد وجدت، غير أنها لم تزل في دائرة اللفظ، ووعي(اللغة) هذا حَالُهُ كحال الغناء والتراتيل التعبدية والطقوس وغير ذلك، من فنون يكون الصوت وسيلة الأداء فيها، بقيت مجهولة ولا نملك دليلا ماديا عليها. غير أن (الجمالي) أستطاع أن يبين لنا بعضا منها متمثلا في الممارسات الدينية والاجتماعية.
هنا أجد دليلا آخر وهو مستقرأ من سلسلة الأشكال (ينظر شكل رقم 46) للتأكيد على أن النحاتين هم الكهنة في بداية الأمر، وهو التشابه الفظيع والمتقارب في تماثيل المتعبدين، ولعل الفكرة من هذه التماثيل هي ديمومة أو استمرار فعل التعبد من قبل الأفراد، فحينما ينشغلون في أمور الحياة الأخرى يضع (الجمالي) لهم (رمزا) بديلا عن الأصل، ترى هذه الآلية من الاشتغال ألا تؤكد في ذاتها غياب (السلطة)، وان (الكهنوت) بفعل التطور حين وجد في مسرح الوجود قد رفض مثل هذه الممارسات (الحرة)، ولم يكن للعامة وجودا رمزيا (تماثيل) في المعابد وإنما الوجود فقط للخاصة من (الآلهة أو الحكام أو الكهنة وغير ذلك).
ليست المشكلة هنا ذات أثر يذكر في بنية الحضارة، غير أنني أجد أن الفنان في بداية الأمر هو صاحب السلطة، ثم بعد أن وجد اول تمثال لأول (ملك) وجدت السلطات التي تُسيّر الفن، وتعددت من دينية، اجتماعية، منطقية ... الخ. وسنشاهد ذلك فيما يأتي، غير ان هذا الموضوع ليس نقطة ضعف، بل بالعكس إنما الفن في مثل هذه الحالة هو الوعي الأول وهو الكاشف عن أنواع الوعي الأخرى.
إن في تداخل معطيات الوعي في بنية الحضارة، مؤشر على عدم وجود حدود زمانية ومكانية، ما بين حلقة وعي وأخرى، ولذا فأن الوعي (المنطقي) نجده متمثلا في أول ظهور(للجمالي) وهكذا بدأ يتطور عبر تداخل حلقات الوعي الأخرى، فالديني من دون شك يعني (الاعتقادات) وهذه لا يمكن أن تكون متصفة بالقبول من دون تبرير(المنطقي)، وهكذا المسألة مع الاجتماعي، اعني (الاتفاق) على كل شيء يرتبط بالجماعة، بدءا من الزراعة وانتهاء بالعبادة.
فهذه الاتفاقات الجمعية لم تقبل أو ترفض دون تدخل (المنطقي) كذلك. بل حتى (الجمالي) وتطوره في بنياته الشكلية من بنية إلى أخرى، كان بفعل اشتغال (المنطقي)، انه طاقة خفية ستؤكد ذاتها في أخر المطاف لأنها لم تجد الوسيط الأمثل لحد الآن، فظل محكوما باللغة وتحديدا الكتابة، وحين وجدت هذه اللغة وجد المنطقي وسيطه الأمثل لاشتغاله في مسرح الوجود.


جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
احمد جمعة


[1] هاوزر، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ص45-48.
[2] هنا لا أريد مجرد المخالفة في الرأي وإنما هو طرح وجهة نظر أخرى وهي أن الجمالي هو الذي يحرك الديني بل ويصحح معتقداته، والباحث هنا يميل إلى رأي د.زهير صاحب، في محاضرة ألقيت على طلبة الدكتوراه، كلية الفنون الجميلة 2008، مسجلة من قبل الباحث.
[3] سنناقش فيما يأتي تحرك (الجمالي) في آليات اشتغاله في العمارة تبعا لفكرة الارتفاع.

تعليقات