سوسيولوجيا الخطاب الجمالي

المعرض الاخير للفنان - محمد الكناني

الرسام نحاتاً للذاكرة والمكان

كثيرا ما يبدو لتلك الطروحات السوسيولوجية مكانتها الفاعلة في الخطابات البصرية، وبصورة خاصة التشكيلية، وما أجده واضحا في المنجز الفني النحتي للفنان الدكتور (محمد الكناني) هو تأكيده على تلك الطروحات الاجتماعية ذاتها التي ارتبطت بالترسبات الجمعية، والتي تعلقت بالمرحلة الأسطورية، تلك المرحلة التي يصفها الاجتماعيون(بطفولة المجتمع)، وهي غير طفولة الفرد.

إننا لنعرف ان الأسطورة لا تأتي او تتكون إلا عند وجود بواعثها السابقة لها في النشوء والتكون، الأمر الذي يجعل هذه البواعث تشكل أهمية عند مختلف المفكرين مع تعدد مستوياتهم وتباين تخصصاتهم من (مؤرخين وفلاسفة وانثروبولوجيين وسايكولوجيين و...)، لتكوّن هذه البواعث نقاط جدل لا يمكن إغفالها بقدر ارتباطها ببنية الأسطورة ذاتها.

ولا يخفى الدور الذي رسمته الأشكال عبر تمرحلاتها في الزمكان بوصفها سلسلة حتمية الوجود بشهادة استمرارها وديمومتها حتى هذه اللحظة، خاصة إذا ما أدركنا التحول الشكلي الذي جعل من (الجسد) أسطورة، أثقلت كاهل الفن التشكيلي منذ نشوء الأعمال البصرية الأولى، قبل أن يكون هناك دين او اجتماع او فلسفة، وبالتالي لا يمكننا إغفال (الجسد)، حتى وإن كانت ثمة أعمال فنية قد اتسمت من الناحية الشكلية بان منطلقاتها التصويرية ذات بنية رمزية، لان الفن البصري في نهاية الأمر ما هو إلا نوع من أنواع التفريغ النفسي في معالجات (رمزية) وان كان تشبيهيا.

وما نشاهده في أعمال الفنان(محمد الكناني) في بنيتها العامة، هو تمثيل لتلك المرحلة الأسطورية التي ارتبطت بطفولة المجتمع، خاصة وان مجمل الأعمال جاءت وفق منظومتين متغايرتين في الأداء والتركيب البصري أو الشكلي، إذ تعلقت المنظومة الأولى بالذاكرة والثانية بالمكان، بمعنى ان القطع الفنية في المعرض للفنان (الكناني) في بنيتها الشكلية التركيبية إنقسمت الى مستويين قسم تعلق بتغييب ملامح الجسد، واخر تعلق بتشخيص ملامح الجسد. فالاشكال المرتبطة بالحضارة نجد الاجساد فيها منصهرة في التكوين العام للاعمال والاشكال المرتبطة بالموروث نجد الاجساد فيها مشخصة ولها حضور و حضوه تكوينية في بنية الشكل.
أو لنقل أن المنظومة الأولى ارتبطت بالحضارة والثانية بالموروث، وهذا ما يبدو مشخصا عند مطالعة الأعمال الفنية على أنها تمثل بنيات رمزية جاءت لتعالج تلك المراكز التي شغلت بال المفكرين بعمقها الحضاري والموروث في مؤلفاتهم عن العراق وأصالة النشوء المجتمعي فيه.

قبل الدخول في بيان محمولات المعنى لكل من المنظومتين اللاتي قدمهما (د.محمد الكناني)، أجد انه لمن المناسب ذكر هذه المعلومات عنه:

انه في التخصص الدقيق رساما يحمل في رأسه استمرار ثلاث شهادات أكاديمية، بدأت بالبكالوريوس وانتهت بالدكتوراه، وله عضويات كثيرة وفي مختلف اللجان والجمعيات والرابطات، وهو مشارك فعال داخل وخارج العراق، إلا أن نشاطه بالكامل كان تعبيرا عن انتمائه لتخصصه(فن الرسم)، وما هذا المعرض الشخصي الرابع سوى مفاجئة تخطى فيها رساماً محترفا ًمنذ سنيه الأولى حدود(النحت) وبجدارة تمثلت بالمقدرة في صناعة المشهد النحتي، والقيام بعرضه وفق تركيبات معمارية يبنى عليها التكوين المجسم، وهي تعكس المهارة والقدرة في تركيب ذات الأشكال في ما لو كانت رسما. إلا أن ما يميزها هو وقوفنا أمامها وبشكل يدعونا لان نقول عنها بأنها توازي في انتظامها ومضمونها أعمالا لنحاتين كبار، لهم الريادة في الحركة التشكيلية في العراق وربما في الوطن العربي، أمثال الفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك والفنان الدكتور مرتضى حداد من الناحية الشكلية والموضوعية.

لقد حاول الدكتور (الكناني) في المنظومة الأولى (الذاكرة) أن يؤكد في خطابه البصري على(الزمن)الممتد عمقا في خطٍ يتلاشى عند تلك القرى الأولى التي كونت الحضارة السومرية في (حسونة وسامراء والعبيد وحلف)، مستعيرا المهيمنات الفكرية الكلية والتي بالإمكان استشفافها من المنجز الحضاري بشكل لا يختلط معه الشك، فالخصب والذكورة والمسلات التي كانت تحتوي البطولات بصيغتها الرمزية الصورية أو الكتابية كلها مراكز تشخصت بوضوح في(الطفولة المجتمعية) في الفكر الرافديني. وتمثيل تلك الأفكار في أعمال نحتية لا يمكن أن يكون إلا بأسلوب المحاكاة غير أنها ليست كذلك في أعمال (النحات الرسام الكناني) الذي قدم لنا إفتراضا اخر او مقولة جديدة في النظام الشكلي ببنيات علامية متفق عليها مسبقا أنها فاعلة في الخطاب الحضاري، لأننا وبفعل قصدي من قبل النحات يمكننا مشاهدة التصرف في بنية الشكل البصري لجسد المنحوتات التي ارتبطت بالذاكرة أو الزمان.
التصرف لم يرتبط بالفكرة العامة لتنفيذ الأعمال فقط، وإنما تمت عملية إنشاء جديدة لأعمال حضارية وفق رؤية ذاتية معاصرة، وكانت لدى النحات مساحات واسعة في التعبير عن ذلك وبأكثر من طريق، فالخروقات التي خالفت المألوف والسائد بارتباط العمل مع القاعدة التي يثبت عليها، والتكوينات المتداخلة في ما بينها، والامتدادات التي تخلق نوعا من البناء في أجساد معمارية يرتبط كل جزء منها بالجزء الأخر وغير ذلك من المعالجات الخطية والسطحية مما يحتسب لصالح النحات.

أما في المنظومة الثانية (المكان) فقد حاول النحات أن يؤكد على (الانتماء) للواقع ليس بوصفه بوصفه حقيقة بقدر ما هو محيط بيئي لا بد من التفاعل معه وفيه، وبالتالي إرجاع هذه التفاعلات أو الممارسات الحياتية إلى مراكزها في الذاكرة العامة أو الطفولة المجتمعية الأولى فجاءت فكرة الذكورة والأنوثة والخصب والمسلات... الخ. بشكل موروث له ارتباطه الحضاري الذي لا يمكن الانفكاك عنه بأي شكل من الأشكال.

الأمر الذي أدى وبشكل قصدي كذلك أن يستعمل النحات بعضا من الرموز في المنظومتين التي تعلقت ب(الذاكرة = الزمان) او التي تعلقت ب(المكان = المحيط)، او لنقل بين الحضارة القديمة والموروث الحالي، كالأسماك وصيدها عن طريق (الفالة) والقوارب والثور و القرون وغير ذلك من المفردات التي وظفت في كلا المرحلتين بشكل بصري مدروس.

وفق هذه المعطيات أصبح من غير الممكن أن ينفذ الفنان هذه الارتباطات بين(الذاكرة والمكان) بنفس التركيب البصري، بمعنى أن واحديه الشكل في تنفيذ الأعمال خطوة غير موفقة، الأمر الذي دفع النحات وبشكل حدسي وقاصد أن تكون التركيبات الحضارية غير مشخصة تغلب عليها سمات التجريد والرمزية، وان تكون التركيبات الموروثة مشخصة وبأداء قريب من الواقع حتى في المفردات الجزئية كالطبول والأسماك وغير ذلك كحركة الأجساد وتعايشها مع المحيط وبشكل مستمر. ناهيك عن إضفاء الشعور بالأمل والامتلاك والفرح وطلب الكسب للعيش مفردات مضمونيه حملت في الأشكال الموروثة والقصد في تغيب تلك الأحاسيس والمشاعر في الأشكال الحضارية التي افترضنا انها تشكل القسم الاول.

في هذا المعرض (للكناني) وجدت المزج بين (الداخل والخارج)، كما بين (الزمان والمكان)، القديم والجديد، وكأنه يريد القول بان المنجز في ما سبق كان مأسورا لأفكاره الأسطورية، وان المنجز الآن هو الذي يأسر الفكرة، حتى وان كانت بمثل ما كانت عليه سابقا، بمعنى انه يحاول أن يضع برزخا بين ما يمثل السياق الاجتماعي، وبين ما يمثل السياق الفني، دون الانفكاك عن بنيتيهما الكلية والتي هي في نهاية أمرها لا تعكس سوى عملية(التأثر بالفكرة وأهمية التلقي لها). هذا الكشف الذي يتمثل برصد أصالة الفكرة، وأصالة الفن، إنما هو في حقيقته صراع جدلي لم يقف التنظير على حدود له، وبقيت المسألة ذات نهايات مفتوحة، كما أن (الكناني) نحاتا راسخا إن شاء الله حاول في معرضه أن يطلعنا على تلك النهايات بحضور قل وجوده في مكان واحد وذاكرة واحدة.
واخيرا اقول: لقد جدد الرسام النحات (الكناني) أفقاً كاد ان يغلق في مسيرة النحت العراقي المعاصر، بالقياس الى التحركات الخطيرة التي يشتغل وفقها النظام البصري العالمي، كما انه وبفعل إدراكه الواعي عرف كيف يسافر الى سومر ويقطف منها مراكز قصديه في الأداء كما اقتطف من محيطه مراكز أخرى مرتبطة مع سابقتها دون قطيعة كما تقدم.

احمد جمعة
بغداد
كلية الفنون الجميلة
بعض من اعمال معرض الذاكرة والمكان للدكتور الكناني

تعليقات