خامسا : المنطقي والنظر في الوعي الجمالي.


أن المنطقي بما هوهو: قواعد عامة للتفكير، جاء متأخرا في سلسلة تطور الحلقات، وان بنيته المتكاملة أخذت جذورها من آليات اشتغال الجمالي وكشف الأخير لمعطيات ثاوية في بنية الأشكال، كالاشتغال الرمزي والكشف المفهومي، وغير ذلك، بمعنى أن تطور الوعي الجمالي وصولا إلى اكتشاف (الكتابة) هو الذي أدى إلى ظهور المنطقي، خاصة بعد أن أدرك الإنسان احتياجه للمعيار، في مختلف تعاملاته بهذه الحياة .
ولذا فسرعان ما ميز بين الأحكام الدينية والقوانين الاجتماعية والقواعد الفكرية، وقلنا أن هذا التمييز، لو لا وجود الجمالي، لما كان؛ الأمر الذي سيحيل هذه الدراسة الاستقرائية للغور في رابع حلقات الوعي، لارتباطها بالقوة والفعل، في فلسفة الجمال.
أرى أن العلاقة بين الجمالي والمنطقي في مراحلها التاريخية هي عينها العلاقة ما بين الفن والمعرفة، الفن بوصفة نتاج الجمالي، والمعرفة بوصفها نتاج المنطقي، لكن هذه العلاقة تأخذ في بيانها مسارين، أو هي تتعدد إلى مستويين، في علاقة كل منهما بالأخر، فالنظر إلى الجمالي في هذه المسألة ليس متعلقا بفن من الفنون، وإنما مختلفا بين(جمالية – الفن)باعتباره إدراك انفعالي أو خيالي، وبين (منطقية – المعرفة) باعتبارها إدراك تأملي أو عقلي؛ لذا فإن حدود الخلاف في جذره الواحد، يرجع إلى " الفارق الأساس بين الاعتقاد والخيال: إن الاعتقاد فكرة اكتسبت شيئا من حيوية الانطباع وقوته، والخيال فكرة لم تكتسب شيئا من ذلك " [1].
الأمر الذي دعا لتناول هذه القضية بين أوساط الفلاسفة وبشكل موغل في القدم. وقد تبين لنا الارتباط الأساس(الفكري)لبناء أو نشوء المنطقي، كانت بذراته مستمدة من اشتغالات الجمالي إلى أن نضجت ثمار الكتابة، ثم وبعد أن تأسست منظومة التعميم في قواعد فكرية، باستبدال الوسيط وانتقاله من (الشكل) إلى (الحرف)، اخذ المنطقي يفسر بنيات الوعي التي تخصص إليها من - جمالية، دينية، اجتماعية، وحتى منطقية- ليؤسس نظاما من (اليقين)، يفسر على أساسه الوجود بمعناه(الجزئي-الكلي).
أما الجمالي فانه قد انقسم إلى قسمين وهما: فن مرتبط بذات الجمالي، وأخر مرتبط بأنواع الوعي الأخرى(دين اجتماع منطق)؛ وذلك لان الجمالي بعد أن كان وسيطا يمكننا القول عنه (مثاليا) بوصفه التداولي، لتمثيل الأفكار في بنيات شكلية، وان هذا (المتداول: الشكلي)شيئا فشيئا حل مكانه (المتداول: المكتوب)، الأمر الذي أدى لانقسامه لقسمين:
قسم يؤكد على بنيته الأولى، وهي الصفة الجمالية المجردة، وأخر تعدد إلى بنيات ثلاثة مرتبطا بأنواع الوعي الأخرى، بمعنى انه في قسمه الأول لم يستطع مقاومة الحنين أو الرجوع في آليات اشتغاله إلى بداية التخصص، تلك اللحظة الأولى التي وجد فيها الجمالي-الرسم الأول - النحت الأول - الغناء الأول - الرقص الأول- دون تأثير من (ديني أو اجتماعي أو منطقي).
 وفي قسمه الثاني تعرض للانزواء، كأنه غريب أو ثانوي وهذا يعني، انه وبفعل الكتابة وتدخل المنطقي في كل شيء، بهدف المعرفة والوصول إلى كشف الوجود بما هوهو، قد انكمشت بنية الجمالي كوعي أولي، لتبدأ العيش في غربة طويلة يمكننا تسميتها بـ(الايديولوجيا)، لتسطر روائع جمالية غير أنها لم تحمل على أنها جمالية صرفة وإنما جمالية دينية أو اجتماعية أو منطقية.
ولم يتم التخلي عن هذه الغربة، إلا حين جاءت الرمانتيكية وما بعدها، ليلتحق القسم الأول بالثاني ويتحرر الجمالي من - ايديولوجيا الوعي الأخرى- غربته ويعود كما كان في آليات اشتغاله الأولى متحررا عن كل مؤثر يحرفه عن مساره[2].

 الجمالي – المنطقي.
بعد هذه التقديمات للفكر المثالي بشكل عام علينا تحديد معنى(علم الجمال)وفقا لمنهج البحث، أو تماشيا مع المعطيات التي تخصصت في سلسلة تطور الوعي، فإذا كان الوعي المنطقي يبحث عن القواعد التي توصل إلى النتائج السليمة عند التفكير، أو لنقل انه ينطبق وفقا للمعيار في أحكامه، فان الوعي الجمالي يبحث عن العلة التي يكون بها الشيء جميلا، ويضع المعايير التي يمكن أن يقاس بها.
غير أن المتطلع إلى حركتي، المنطقي والجمالي، في ادوارهما التاريخية سيجد أن الجمالي أكثر تحولا من المنطقي، وذلك لان الأخير أكثر رسوخا، خاصة إذا ما أدركنا انه قائم لهذا اليوم بمثل ما كتب أول الأمر على يد أرسطو.
وان حدث ووقعت عليه الجدة هنا أو هناك فهي جدة لم تؤدي إلى تحوله بالكامل، وإنما أدت لتطوره، كما فعل ذلك برتراند رسل في المنطق الذري مثلا، أما الجمالي فسنرى انه متحول المعيار من فيلسوف إلى أخر، بمعنى انه لم يستمد ركائزه من الواقع كما فعل المنطقي، وإنما من المنجز الفني وان كان الأخير متصلا بالواقع.
بمعنى أن الأعمال الفنية هي التي شكلت موضوع الجمالي، بينما القواعد الفكرية هي التي شكلت موضوع المنطقي، وعليه أرى أن تعلق الجمالي بالمنجز الفني هو الذي دعا إلى أن يختلف المعيار من فرد إلى أخر، وكان العملية هنا طردية، فما دام المنجز مختلف من فرد لأخر فان الأحكام الجمالية مختلفة كذلك تبعا لميول مطلقها.
ولذا سعت الأبحاث الفلسفية تطورا لوضع القواعد التي يمكن وصفها بالمطلقة أو العامة،غير أنها وعلى الرغم من ذلك لم تتصف بالديمومة أو الثبات كما اتصفت بذلك أحكام المنطقي غير القابلة للتبدل، على الرغم من أن المعيار الذي تنبثق منه وهو الواقع، في تبدل مستمر، وهي بالفعل جدلية تحتاج الوقوف عليها وتأملها طويلا.

 المنطقي والنظر في الوعي الجمالي.
في عودة لذي بدء عند الاختلاف مابين الجمالي والمنطقي، الاختلاف بين الأداء الانفعالي الخيالي/ وبين الأداء التأملي العقلي، لنجد أن هذا الاختلاف يرجع إلى العصر الكلاسيكي للفلسفة أي عصر الإغريق، تحديدا عند بداياتها مع سقراط وهكذا مع أفلاطون وأرسطو[3] في ما بعد.
حتى أن الجمال بدا كمشكلة تحتاج إلى حدود تبين ماهيته، وكذلك فعلوا مع الإبداع، ثم تناول الفلاسفة من بعدهم هذه المشكلات التي ترتبط بالانفعال والخيال، حتى ظهر(علم الجمال) بوصفه العلم الذي ولدته الفلسفة من رحمها[4] على يد (باومجارتن)[5]، في "القرن التاسع عشر"[6] فـ" أمكن لعلم الجمال أن يستند على القوة العقلية و بذا يفتح الباب أمام العقل لكي يباشر مهامه الإبداعية ويكون دوره فعالا في المجال الإبداعي"[7].
وحتى يتضح لنا ماذا يريد المنطقي من الجمالي أن يكون عليه بصفته الأخ الأكبر، علينا أن نعود إلى تلك المرحلة الموغلة بالقدم، لنرى مستويات تبدل (القواعد) من مرحلة فلسفية إلى أخرى، وكأن الأم الفلسفة تقرر والأخ الأكبر المنطق يوجه والجمالي الأخ الأصغر هو الذي سيقع في حيرة التنفيذ المتعلقة أولا وبالذات (بالتذوق)، وثانيا وبالعرض (بالأحكام). فضلا عن إطاعة كل من الديني والاجتماعي متى دعت الضرورة إلى ذلك.
بمعنى أن الأمر متداخل كذلك مابين تنظيرات المنطقي، ومتطلبات الديني والاجتماعي، وهنا لربما يمكننا أن نستقرء ما يطلبه الأخيرين، ولعله منحصر في إقحام الشكل المعقد ذي التفاصيل، والموضوع، غير أن معطيات المنطقي، بوصفه القواعدي حيال الجمالي لا يمكن التكهن بها دون المرور بمراحل اشتغالاتها في بنية الفكر.


جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
احمدجمعة


[1] . محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء مؤسسة دار الكتاب الاسلامي، مصدر سابق، ص 95.
[2] . يذكر عبد الرحمن بدوي في كتابه موسوعة الفلسفة إن " الوعي قد تطور في اتجاهين، يمكن أن ينعت أولهما بأنه وظيفي والثاني بأنه مادي، فبالمعنى الأول الوعي يعني شكلا أو تركيبا في الإنسان، مؤسسا في التركيب الذاتي وتطور هذا المعنى، عند المذهب العقلي، ثم عند(كانت) ثم أخيرا في مذهب الظاهريات والفلسفة الوجودية، أما بالمعنى الثاني فان الوعي يشمل كل ما هو معطى في ذات الإنسان". ولست مؤمنا بما يقول لان ما يقابل الوظيفة بمعنى التطابق هو المادي والأخير لا يقابلها بمعنى الاختلاف؛ لان الفرق بين دعوى المطابقة أو الواحدية كالمادة والجزئي، ودعوى المخالفة أو الاثنينية كالمادة والكلي، وعجبت لانقسام الشيء إلى نفسه مرة، والى نفسه ذاتها مرة أخرى، فلا يمكن القول أن الوعي قد انقسم إلى التركيب (الذاتي) في الإنسان، والى المعطى في ذات الإنسان، وكان الهدف هو التلاعب في الألفاظ ليس إلا، وفي المعرفة الكثير من ذلك، خاصة عند المثاليين المحدثين والوجوديين. ينظر: عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج 3، مصدر سابق، ص 368.
[3] . ينظر : د. مصطفى عبدة، فلسفة الجمال ودور العقل في الإبداع الفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ط2، ص7.
[4] . يقال أن الفلسفة هي أم العلوم وان لها أولاد كثيرين، أكبرهم سنا هو علم المنطق وأصغرهم سنا هو علم الجمال. ينظر: هنتر ميد، الفلسفة أنواعها ومشكلاتها، ت: د. فؤاد زكريا، دار مصر للطباعة، مع مؤسسة فرانك لين- القاهرة، نيورك، 1969، ص 354.
[5] . أصل الكلمة(aesthesis)، مستمد من الكلمة اليونانية التي تعني الإدراك الحسي، وترجمة استاطيقيا في المؤلفات التخصصية وكانت أبحاث هذا العلم في بادئ أمرها ترتبط بالتذوق أو نقد التذوق، ثم حدث نموا ملحوظا في هذا النوع من الأبحاث خاصة في الفترات المتأخرة. ينظر: مجموعة مؤلفين، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ت: فؤاد كامل واخرون، طبع بدار القلم، بيروت، نشر مكتبة النهضة، بغداد، 1983، ص 280 – 282.وكذلك: د.عقيل مهدي، السؤال الجمالي، مصدر سابق، ص 17 و 110.
[6] . ينظر:د. محسن محمد عطية، نقد الفنون من الكلاسيكية الى عصر ما بعد الحداثة، دب،2001، ص 122.
[7] . د.مصطفى عبدة، فلسفة الجمال ودور العقل في الإبداع الفني، مكتبة مدبولي القاهرة،ط2، 1999، ص 5.

تعليقات

  1. Baccarat | Best Sites for Baccarat - FBCASino
    Baccarat is a very 메리트카지노 simple game to play but there are different levels in this game. หารายได้เสริม Players can choose febcasino to place bets on the table.

    ردحذف

إرسال تعليق