اولا : الوعي الجمالي: (فن الكهوف).



ربما في تقديم النموذج الأمثل لهذا الوعي يمكن الحديث عن فنون الإنسان الأولى وهي رسوم الكهوف، ففي هذه الرسوم تتجسد أولى اللحظات (للجمالي)، بمعنى أن الوعي الكامن في ذات الإنسانية هنا قد تحرك أولى حركاته نحو التخصيص، ومنذ هذا التحرك أصبح الفن " عامل أساسي في الإنسان، لازم للإفراد كما للجماعات"[1] واللزوم هنا بمعنى الضرورة، وهذا ما يؤكده استمرار الفن حتى اليوم.
وفيما يتعلق بهذه المنجزات الأولى، قد كتب منظرو التاريخ والفن والاجتماع، أن ثمة بواعث تكمن خلف هذه المنجزات، منها التشابه السحري وطرق السيطرة على الموجودات، غير أن هذه التأويلات لم تكتسب صفة الثبات، أو مطابقة الواقع، كما أنها مقبولة لدى العقلاء لرجحان افتراض وجودها في هذه المرحلة الجمالية، أو الشكلية، ولسنا في صدد ذكر ما كتب عن هذه الأدوار السحرية (التشابهية والتشاكلية)، وإنما هدفنا هو اللحظة الجمالية الأولى، التي تمت من خلالها ولادة هذه السلسلة الجبارة من تأريخ الفنون الإنسانية الطويل.
كما أن هذه المنجزات الأولى عند ملاحظتها من الناحية الشكلية، نجدها قد قامت على دور رئيسي وكبير وهو دور المخيلة، إذ تم تنفيذ هذه الأعمال الفنية بطريقة المحاكاة أو تمثيل الواقع، وربما اتسعت حدود هذا التمثيل (لرسم) أو (نحت) فعالية الصيد بشكلها الكامل، ولكن ماذا يعني وجود مثل هذه الفعاليات في مخيلة الإنسان، وماذا يعني تمثيلها في جدران الكهوف، ألا يعني هذا قدم الشكل التصوري، أو قدم الصورة، أو أن هذا الاشتغال الشكلي هو الذي وجد في بدايات الفكر الإنساني.
إن المسألة مرتبطة بنظام (التطور)، إذ ليس من المعقول أن توجد الأشياء هكذا وبشكل دفعة واحدة على تكاملها في مسرح الوجود الإنساني، فليس من المعقول أن تكون الحضارة الإغريقية مثلا، هي وليدة نفسها من دون تدخل لحضارات قد سبقتها في الوعي المنطقي المنظم، وليس هو معقول كذلك أن يبدأ الإنسان أول الأمر بلحظة الإبداع المتمثلة (بالكتابة)، وأنا أؤيد ما قدمه (غاتشف) في هذا الصدد، من ناحية قدم الصورة على الفكر المنطقي والديني، وأنا اختلف معه في سلسلة ترتيب اللحظات، وان كان غاتشف لا يسميها باللحظات، كما هو لا يصنفها كذلك بمثل هذه الطريقة الاستقرائية، فهو يقول: "الصورة تسوغ نفسها أمام الفكر المنطقي، والفكر المنطقي يسوغ نفسه أمام الوعي الديني الميثولوجي"[2].
فالمسألة هنا غير متعلقة بتأويلات الأشكال، بقدر ما هي متعلقة ببنيتها كمنتج جمالي، ولعل هذا هو الأمر الذي دفع (رينيه هونغ) بقوله: إن(حس الجودة) هو الذي يميز الإنسان جوهريا عن الحيوان، فيمنح مقامه المتصدر في سلسلة الكائنات، ويبن ما هي علة شرفه ورفعته[3]. ولو عدنا لما تقدم في الاستقراء السابق، لوجدنا أن الوعي بما هو كلي بالفعل تشترك به كافة الحيوانات، وأنه بما هو مخصص تميز به الإنسان وحده، وقد قال تعالى في محكم كتابه العزيز(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[4]، إشارة لهذا الوعي المخصص، والظاهر من خلال المنجزات الأولى للإنسان أن هذا الوعي أول ما تخصص (بالجمال)، ولذا " يتمتع الإنسان وحده بموهبة التصور الفكري والمتابعة المدركة "[5].
هنا قد يقول قائل إن هذه المنجزات الفنية كان يرافقها بعضا من الطقوس –كما يذكر ذلك المؤرخون- ألا يمكن أن يكون هذا الطقس في حد ذاته بنية أدائية جمالية، خاصة وانه يحتوي على بداية ووسط ونهاية، بمعنى انه يحتوي على أولى بذرات مراحل (الإخراج الفني)، وتوزع فيه المهام، وتتنوع فيه الحركات والأصوات وربما الرقصات، ففي مثل هذه القضية نكون قد عدنا إلى التأويل الذي يرفضه الاستقراء العلمي، لكن وعلى الرغم من ذلك، لا نجد فرقا واسعا بين ما تقدم، وبين اعتبار هذه الطقوس نوعا من أنواع اللحظة الجمالية.
 وان صحت هذه الطقوس في الواقع (الفعلي) حسب تأويلات المنظرين، فإنها مؤشر على تخصص الوعي العام إلى (جمالي) في بداية الأمر، في كل من (الصورة والفعل)، ولعل هذا الموضوع يشابه ما قدماه غاتشف وتليمة، من أن "الصورة قديمة قدم العمل"[6]، وانه بالفعل ربما تطور مفهوم الأداء وعمليات العروض الراقصة والمسرحية في بنية الحضارات في ما بعد، من هذه اللحظات الطقسية الأولى، وعلى أية حال فإننا ما زلنا في (الجمالي) ولم تخرجنا هذه الطقوس إلى أمر آخر.
بقيّ أن أشير إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن فنون الإنسان في هذه المرحلة الأولى من التطور في الوعي، متشابهة في كل سماتها الشكلية، ولا فرق بين معطيات الإنسان (الجمالية) الأولى بين حضارة وأخرى، وتكاد تكون أعمال الإنسان في هذه الفترة ناتجة عن فنان واحد، وأنها بشكل عام تغلب عليها صفة (التعبيرية).
وثمة مسألة أخرى تخص فنون هذه الفترة (الكهوف)، أن الفنان حين (يرسم) أو(ينحت) الموجودات التي تحيطه، يمثلها بتمثيلات واقعية (محاكاتية)، أما حين(يرسم) أو(ينحت)الإنسان فأنه(يجرد)الشكل الإنساني، بمعنى أن أعمال الفنان في هذه المرحلة كانت في نفسها تحمل معنيين، معنى(مشخص) تمثل بما هو متعلق بالطبيعة، ومعنى (مغيب) تمثل بما هو متعلق بالإنسان، وهذا يعني أن الوعي (الجمالي) منذ اللحظة الأولى، قد حدد مسارين في الاشتغال الشكلي، مسار تعلق (بالتشبيه) وآخر تعلق بـ(اللاتشبيه)، وان هذين المسارين قد استمرتا حتى هذا اليوم، ولكن لماذا كان الفنان يشخص (الموجودات) الطبيعية ويغيب الإنسان؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في تأويل المنظرين والمؤرخين، فبما أن التأويل قد أشار إلى نوع من أنواع السحر كامن في هذه الأشكال، وان الهدف منه هو السيطرة على الحيوانات لاصطيادها، فتغيب الإنسان خشية السيطرة عليه هو كذلك. وتبقى الإجابة هذه في حدود التأويلات، وربما هي ليست الحقيقة، لان نتائج التأويل ليست بالضرورة متصفة بمطابقة الواقع كما تقدم في بدايات هذا الاستقراء.
وهكذا ينتقل الوعي(الجمالي) انتقاله أخرى في نموه وتطوره، مع انتقال الإنسان إلى(القرية) أو إلى الاستقرار، بعد أن كان يتجول بحثا عن القوت، وأصبح منتجا له، ويذكر المؤرخون والمنظرون انه أنتقل من(النيئ) إلى (المطبوخ) كما يعبر عن ذلك(يوكابسن)، ولست في صدد مناقشة هذه الانتقالة من جهتها التاريخية وإنما من جهة منجزاتها الفنية، وأما التأريخ فمصادره كثيرة وهي مطولة.
قبل الدخول في منجزات الإنسان الفنية في هذه المرحلة، علينا بيان أن هذه الحلقة الأولى وهي (الوعي الجمالي)، تتطور بفعل اكتساب الخبرات، وهي تنعكس في منجزات الإنسان منذ الشروع في لحظة البدء حتى هذا اليوم. ولو تابعنا تطور هذه السلسلة الجمالية في المنجزات الفنية، لوجدناها تتأثر بعوامل المحيط التي تتمثل في جوهرها بمجموع الأجزاء التي تخصص منها الوعي. بمعنى أن (الجمالي) يتأثر منذ هذه الانتقالة (بالديني) وهكذا في الانتقالة اللاحقة سيتأثر (بالديني) و(الاجتماعي) وهكذا.
قبل الدخول في منجزات الإنسان المتعلقة بفنون (القرية) علينا بيان مسألة أخرى كذلك، وهي أن الفنون أو المنجزات الفنية الأولى التي وجدت في مرحلة (الكهوف) كانت بمثابة (الوسيط) لتمثيل الأفكار، التي منشأها (الوعي) الكلي أو العام. ولكن هذه الأفكار سرعان ما تخصصت في (الجمالي) فكانت بنيات شكلية.
صحيح أن هذه الأشكال لم تكن منظمة بمعنى أنها خلت من التوزيع المنطقي لبناء المشهد، وأحيانا نجدها قد نفذت شيئا فوق شيء، أو لنقل فكرة فوق فكرة، أو صورة فوق أخرى، وأنها تفتقر لدقة التشريح واكتمال عناصر الشكل. إلا أنها كانت في الوقت ذاته تشكل بذرات أولى (للمنطقي). بمعنى أنها في ذاتها لحظة جمالية-وعي جمالي- إلا أنها في الوقت ذاته مكون أول لبنية الاشتغال المنطقي، لأنه سيأتيننا لاحقا، أن هذه الأشكال الأولى تكثفت فأصبحت اللغة أو الكتابة.
المهم هنا هو أن (الجمالي) في أول الأمر هو الصفة أو التخصص المعلن، والكامن في بنية الأشكال، وثمة أمر آخر متماثل في الأهمية، وهو أن هذه الأفكار حين وجدت في (الصورة)، يعني هذا ولادة (الرمزية)، ولادة الإحالة من شيء إلى شيء آخر، فلم يعد (الثور) في الطبيعة هو تمثيل لموجود من موجودات الطبيعة، وإنما أصبحت (للثور) بنية تصورية تنعكس في شيء آخر، وهذه الآلية من الاشتغال الفكري التي تفصل ما بين الشيء في الواقع والشيء في (العمل الفني) سرعان ما تطورت كبنيات رمزية في فن القرية، فسيأتي أن (الثور) ليس هو (الثور) في الطبيعة، وليس هو (القوت) في فنون الكهوف، وإنما هو (الخصب) في فن القرية.
وهنا يمكننا ملاحظة انتقال المعنى من بنية شكلية إلى أخرى، فبعد أن كانت (الصورة) للموجود الطبيعي (الثور)، تعني المساواة مع (صورة) الإنسان الطبيعي في الوعي الكلي أو الأول، نجد أن الإنسان قد انشأ (صورة) أخرى (للثور) تعني (القوت)، وطرق استحصال هذا القوت لأيتم إلا بقتل (الصورة) الثانية (للثور)، ثم سرعان ما حصل التطور في بنية الأشكال فولدت (الصورة) الثالثة (للثور) فأخذ يرمز للخصب، بمعنى انه صار يقدس بعد أن كان يقتل في الصورة السابقة، وهذا التحول في بنيات الأشكال، بالطريقة الرمزية وآليات اشتغالها (أ يعني أَ) لهو تحول في غاية الأهمية في الفكر الإنساني.
وأنا شخصيا عندي أن هذه الآلية من الاشتغال توازي قاعدة منطقية قام على أساسها مفهوم (الدلالة) في علم المنطق الارسطي*. إن لم تكن ارفع منها لكونها أول اشتغال (دلالي) رمزي في التأريخ الانساني**.
بعد أن قلنا أن (الوعي الجمالي) مرتبط بسلسلة أجزاء الوعي الأخرى، وان الأشكال كانت وسيطا لتمثيل أفكار وردت من الوعي (الكلي)، وان في الأشكال تطور لبنية اشتغال رمزية.
سنأتي إلى بيان مسألة ترتبط في تطور الأشكال (ذاتها)، أو لنقل انتقالها من حالة إلى أخرى ( من جهة شكلية)، انتقالها من المحاكاة في فن (الكهوف) إلى (التجريد) في فن (القرية) وما هو السبب في هذا التحول؟


جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
احمد جمعة


[1] رينيه هونغ، الفن تأويله وسبيله، ص11.
[2] غاتشف، الوعي والفن،  ص 5 - 10.
[3] رينيه هونغ، الفن تأويله سبيله، ص12.
[4] القرآن الكريم، سورة: الإسراء، الآية(70).
[5] رينيه هونغ، الفن تأويله وسبيله،  ص12.
[6] غاتشف، الوعي والفن،  ص 7، وكذلك : عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، دار العودة، بيروت، 1979.
* إذ تطور هذا الأداء حتى تبلور في أبحاث أرسطو، تحت عنوان (ايساغوجي)، وهو في علم المنطق الصوري واضحا في مبحث الدلالة.
** هذا التطور دفع الجمالي في آليات اشتغاله للتكثيف، حتى جاءت الكتابة، فولد وبشكل صريح (المنطقي)، بوصفة لون أخر من ألوان الوعي الإنساني، المتداخلة في ما بينها، ليحل وبشكل رياضي نظام(الرمز) في كل بنيات المعرفة ومنها المعرفة الجمالية.
 والباحث يرى أن هذا الاشتغال الرمزي هو بالفعل تمثيل حقيقي لأداء الرياضيات، وقد أخذت هذه الفكرة مأخذها، عند برتراند رسل في تطبيقاته لها في علم المنطق الرمزي، والغريب في الأمر، أن هذه الإحالة من (شيء)إلى (شيء) أخر، هي التي دفعت (الاعتقاد) لان يوجد، ولنأخذ مثالا لذلك (الفتش) الذي يعد أول خطوات تكون الوعي الديني، وهكذا حتى تطور الوعي الديني بفعل ضرورة الاعتقاد إلى صياغات أكثر تعقيدا، أخذت حيزها في الوعي الاجتماعي من خلال الاتفاق على النظام المفهومي(الذي يربط الفر بالفرد والفرد بالآلهة) في حيز سمي بالمعابد، فكانت الطقوس التعبدية خير مثال على الوعي الاجتماعي.
بمعنى أنها كاشفة عن بنية العقود الاجتماعية فضلا عن تطورها بفعل الكتابة وإدراج هذه العقود – مثلا – في (مسلة حمورابي). كما أننا في كل حلقات الوعي نجد أن الجمالي بعده وعيا أوليا هو الركيزة الثاوية في تخصص الوعي لما تخصص عليه، بمعنى انه لو لم يكن الجمالي موجودا لما وجدت أطراف الوعي اللاحقة له، ولهذا يكون الجمالي ضرورة حتمية في مسرح الوجود الإنساني.

تعليقات