سابعا : الوعي الجمالي عند فلاسفة العقل .



بمراجعة فاحصة لتاريخ التحول في بنية المعيار، فإننا سنجد صاحب التفسير الغائي للأشياء أو الموجودات الفيلسوف الإغريقي سقراط الذي يؤكد أن على الفن أن يسير وفقا "لخدمة الأخلاق والجمال، ويجب أن يؤدي إلى الخير لا إلى اللذة الحسية الزائلة"[1] وان على الفنان وفقا لذلك أن يكون معقولا، بمعنى انه قد جعل الوعي الجمالي مرتبطا بالأخلاق، وبالتالي فهو منتظم بالقدر الذي يجعلنا أن نقول عنه نافع.
وبما أن الأخلاق الحميدة أو النافعة هي التي تعكس الحياة المثلى، فكذلك الفن النافع هو الذي يعكس الحياة ذاتها .
أما أفلاطون ففلسفته لا تختلف كثيرا عن فلسفة سقراط، من جهة انسجام الفن مع السلوك لخدمة المجتمع، غير أن هذا المجتمع في اليونان القديمة، كان يرى أن للفنون ربات تختص برعايتها، وهي التي تلهم المبدعين لانجاز أعمالهم، فظهرت على يديه نظرية الإلهام، إلا إنها ليست من ربات الشعر وإنما من المثل .
والتي "ترجع الإبداع الفني إلى نوع من الإلهام الذي يأتي من قوة غيبية"[2]، وعلى هذا فان أفلاطون في الوعي الجمالي، اختلف عن غائية أرسطو في التطبيقات الجمالية؛ لان "الفن عند أفلاطون تجلي صوفي نحو عالم المثل"[3].
غير أنني أعجب لهذا الفيلسوف كيف استطاع أن يشير إلى جمال الأشكال الهندسية، كالخطوط المستقيمة والدوائر والمسطحات والزوايا والمساطر[4]؛ لان هذا يعني حضور العقل في العملية الإبداعية وليس غيابه اعتمادا على الإلهام.
الأمر الذي دعا الباحث للاعتقاد بان نظرية الإلهام عند أفلاطون ليست هي عقلية دون الهام وليست هي الهام دون عقل، وما ذلك إلا لكون" الإبداع الفني يتطلب قدرة على التحليل والتأليف والتركيب عند التنفيذ في معظم الأحيان، كما يتطلب مقدرة عقلية وقدرة إبداعية على الدوام فلا يمكن أن يكون للعقل حضوره في مرحلة وغيابه في مرحلة أخرى، فان كان هناك ما يوجب أهمية للعقل في التنفيذ فان ذلك يتطلب وجود أهمية ولو نسبية للعقل في منشأ العمل الفني، ومعنى ذلك أن منشأ العمل الفني يتطلب أيضا مقدرة عقلية وليس إلهاما صرفا"[5].
وأيا يكن الأمر فالمحصلة هي أن الوعي الجمالي قد ارتبط بالأخلاق كذلك، وهو "لا يقتصر على الفنون الجميلة، ولكن يضم كل المهارات الإنسانية بدأ بتدريب الطلاب، وبناء السفن إلى رسم اللوحات ونحت التماثيل، وأسمى فن عنده هو القدرة على الحياة الفاضلة أو العقلانية " [6].
أما أرسطو فقد" اتفق مع فكرة أفلاطون التي تقول بان هناك صورا أخلاقية وأخرى غير أخلاقية وان على الفن أن يكون أخلاقيا"[7] غير انه دعا إلى محاكاة الجوهر، مستندا في ذلك إلى عالم المثل الأفلاطوني، وانه اخفض من قداسة هذا العالم قليلا، " فقد اعتبر الموجودات الحسية في الطبيعة ما هي إلا انعكاس متماثل الصفات مع الصور الأزلية أو المثل العليا "[8] وكلما كان هذا الانعكاس متمثلا في أعمال فنية، كلما تحققت اللذة وهنا نجد الفيلسوف الأول الذي يقر باللذة تبعا لتحقق المطابقة مع المعيار[9] .
إذن فالجمالي عند سقراط ارتبط بالغائية، بوصفها العلة التي يكون فيها الشيء جميلا، بمعنى أن المعيار هنا هو الإفادة من التركيبات الشكلية، لتخدم بالتالي المجتمع، وعلى هذا فان الفن كلما كان في محتواه اجتماعيا أو يعالج مسائل اجتماعية كلما اقترب من مطابقته للمعيار وبذلك يتحقق الجمالي.
أما عند أفلاطون فان المعيار، كذلك هو الإفادة، غير انه كفيلسوف قد أعطى أقدم نظرية في علم الجمال وهي الإلهام، وهكذا هو الشبه مع أرسطو، إلا أن الأخير دعا لمحاكاة الجوهر بوصفه عاكسا للمثل، وأفلاطون دعا لتمثيل المثل ذاتها، و أرى أن المعيار في أبحاث هؤلاء الفلاسفة، هو الإفادة للمجتمع، بمعنى مطابقة الواقع في محاكاة الخير والأخلاق السامية عند الأول، ومطابقة الواقع في محاكاة المثل عند الثاني، ومطابقة الواقع في محاكاة الجوهر المساوي للمثل في انعكاسه بها عند الثالث.
وعلى ذلك فان المنجز الفني تبعا لأقواله لابد أن يكون عقليا مرتبطا بالمجتمع، بمعنى أن يكون مفهوما وليس غامضا، وان كان ليس تشبيهيا، أو مجردا؛ لان المنجز الفني يرتفع إذا ما ابتعد عن الواقع الفيزيقي، أو يتطابق مع المثل، ويهبط إذا ما فارقها، بمعنى أن دعوى الأشكال الهندسية المثلى، عند أفلاطون ومحاكاة الجوهر عند أرسطو، لا يلزمان الفنان على انجاز ما هو تشبيهي؛ وإنما يلزمانه بعدم التعرض إلى اهانة الأخلاق أو المجتمع وان تكون للعمل غاية.



[1] . د. نجم عبد حيدر، علم الجمال افاقه وتطوره، ص 77.
[2] . وفي هذا الصدد يذكر الباحث استجداء (هوميروس) في بداية الالياذه، لربات الشعر ان يهبنه الالهام، ومقولة (هيرقليطس): " اني كالعرافات اللواتي يصدرن في كلامهن الحقائق ولا يعرفن من اين تاتي" . ينظر في ذلك: جان ماري جوير، مسائل في الفن المعاصر، ت: سامي الدروبي، ص 128. وكذلك: جان برتليملي، بحث في علم الجمال، ت: د. انور عبد العزيز، ص 120.
[3] . د. نجم عبد حيدر، علم الجمال افاقه وتطوره، 29،
[4] . المصدر السابق والصفحة ذاتها، وكذلك : افلاطون، الفيلفس، ت:فؤاد جرجي بربارة، ص 273.
[5] . د. مصطفى عبدة، فلسفة الجمال ودور العقل في الابداع الفني، مكتبة مدبولي، ص 29.
[6] . د. محسن محمد عطية، نقد الفنون من الكلاسيكية الى عصر ما بعد الحداثة، ص 51.
[7] . المصدر السابق والصفحة ذاتها.
[8] . د. نجم عبد حيدر، علم الجمال افاقه وتطوره، ص 32.
[9] . يرى الباحث أن اللذة موجودة عند الثلاث، الا انها في ثلاث صور، فيجب ان تكون أولا نافعة، وثانيا مقربة من عالم المثل، وثالثا كاشفة للجوهر او الذات، بمعنى ان الأعمال حين تنفيذها وبعد الانتهاء منها، سيحصل ثمة شعور باللذة، هذه هي المنشودة في الفكر الجمالي، وهي واحدة – أي اللذة- في مراكز الجمالي وتطوره عبر العصور، وقد مر الحديث عن ذلك.

تعليقات