جنيولوجيا الجسد


الخطاب الكوني للجسد يتحدد في انفتاحه الدائم، ليس على مستوى الخطاب ذاته فقط وإنما على مستوى معاني ذلك الخطاب وما يحمله من مداليل وارتباطها بالدوال. وإذا ما أردنا أن نتحدث عن كونية الجسد، فعلينا في بادئ الأمر أن نعقد نوعا من الارتباط بينه وبين كونية المعنى في أنظمة الخطاب، ليس بوصفهما جنسان متباينان أو مختلفان، وإنما بوصفهما يمثلان قضية واحدة تتميز بثنائية الوجوه، سواء أكانت محمولاتها تتصف بالترابط المتصل ام كانت محمولاتها تتصف بالترابط المشروط بقيد ما.

هاتان القضيتان قدر لهما الاجتماع في أنظمة خطابية، استطاعت الصورة بوصفها محددا شكليا أن تبين معالمه في نظام متداخل وشائك ليوظف في مجالات عدة لها من السعة والشمولية ما يعجز الفكر عن بلوغ جميع مضامينه – إلا أن هذا لا يعني الوقوف عاجزين – فوفق هذا التوصيف المتحد في ما بينهما من جهة وارتباطهما بالصورة من جهة أخرى يمكننا النظر اليهما كعنصران متحدان ومتشابهان من جهة ارتباطهما بالصورة- تحديدا ونحن نعلم ان الصورة هي التي تمثل نظام الخطاب، او هي المرتكز الذي تستند عليه أنظمة التداول بشكلها الشمولي حتى تلك التي تعتمد على بنية الألفاظ، لان الثابت لدى معظم المفكرين ان اللغة بوصفها وسيطا للتداول المشاع إنما تعتمد على نمط من تركيب الصور أو التصورات؛ وذلك لان اللغة في حقيقة أمرها إنما هي تركيب متمازج لمجموعة من الصور، سواء اكانت مأخوذة من الواقع ام كانت متخيلة، وبشكل أو بأخر تحمل هذه الصور المعنى المضمن فيها حملا وصف في ما بعد على انه هو الذي يمثل أنظمة الخطاب، واي خطاب لا يعتمد عليها؟.

ان كان ثمة إشكال في ما أوردنا فيرجع في حقيقة الأمر إلى الحد الفاصل في هذا الاتحاد والتشابه في ما بينهما (الجسد الكوني – والمعنى الكوني)، لأنهما في حقيقة الأمر متباينان ومختلفان ولا شك في ذلك، فلا الجسد يشابه المعنى ولا المعنى يشابه الجسد، خاصة وان احدهما لاينفك او يستحيل انفكاكه عن المادة لأنه متشكل ومتعين بها، وان الثاني بعيد تماما عن المادة وانما هو يحمل عليها او يتضمن فيها، او لنقل ان انطولوجيا الجسد قد فرضت عليه ان يكون خارجيا محسوسا، وان انطولوجيا المعنى قد فرضت ان يكون ذهنيا معقولا، كما ان لكل منهما جنيالوجيته الخاصة به، غير أننا لا ننظر إلى الاختلاف بما هو اعم في الواقع، وإنما ننظر إلى الاتحاد في ما بينهما بما هو اخص في الواقع نفسه؛ لأننا نعلم أن الجسد منظور إليه على انه صورة، وان المعنى منظور إليه على انه تصور، وبالتالي فان الخلاف الحقيقي في ما بينهما يتمثل في ان (صورة الجسد الكوني) بما هي هي، لها القدرة على ان تمثل الخطاب الموضوعي بل وتتمثل به، وان (تصورات المعنى الكوني) بما هو هو، كذلك لها القدرة على ان تمثل الخطاب الذاتي بل وتتمثل به.

وعلى الرغم من عدم استحسان ان يعلل التعليل بتعليل اخر، سأضطر لان أقدم تعليلا لما تقدم؛ جميعنا يعلم الفارق ما بين(الجسد/الموضوعي) وما بين (المعنى/الذاتي) انه يتمثل في أن الأول يشق موضوعيته من العقد الجمعي أو ذلك الاتفاق العام الذي فطر عليه الجسد بوصفه موجود خارجي، وان الثاني يشق ذاتيته من التفرد الخاص او ذلك الاستنتاج الذي يتكون منه المعنى بوصفه موجودا ذهنيا. انه نوعا من التقرير المعد او المحكوم بجملة من الاعدادات المسبقة وكأن واقع الحال قد قرر ان يكون لكل منهما خصوصيته التي لاتحدده فقط وانما تميزه كذلك، فما كان محددا بالخارجي هو غيره المحدد بالذهني، وقد مر علينا ان كل منهما يختلف عن الاخر في انطولوجيا وجوده.

وبهذا فإننا وفق تأكيدنا على ارتباط الجسد بالمادة المحددة و بالخارج الموضوعي، وعدم ارتباط المعنى إلا بالتخلي عن المادة والمحدد والخارجي، وتمسكه بمساحات الذهن اللامقيدة او المنفتحة، قد أصبحنا امام دائرتين احداهما كونية في الانغلاق والتشخيص والتحديدات الموضوعية، والاخرى كونية في الانفتاح واللاتشخيص والتحديدات الذاتية، غير ان كلا هاتان الدائرتان لا يسعهما في نهاية الامر إلا ان يجتمعا في صورة. الصورة هنا هي التي توحدهما في نظام الخطاب منذ ان وجد وحتى هذه اللحظة، فالخطاب اذن ماهو إلا استراتيجية عقلية او مفترض ذهني، تعلق وجوده بوجود الصورة، او هو تعكز عليها، قطعا الصورة - سواء اكانت لكونية الجسد، ام لكونية المعنى - في ذاتها، يوجد فيها ثمة خلاف حقيقي، فنحن نتحدث عن صورة لها تشكيل خارجي واخرى لها تشكيل ذهني، لان الجسد صورة في نهاية الامر كما اثبتنا، والمعنى وان كان تصورا إلا انه سرعان ما يصبح صورة. وهذا هو الاتحاد الذي نقصده في ما بينهما، فيما بين (الجسد، المعنى).

وعليه نستطيع القول بأن ارتباط الجسد بالصورة قد اسس لارتباط المعنى بها كذلك، وهنا يجدر بنا ان نبين النقاط على الحروف، فإذا كان ارتباط الجسد بالصورة معد مسبقا لما تبين في انطولوجياه، فمن اين جاء ارتباط المعنى بالصورة ؟، قطعا أريد من وراء هذا التساؤل بيان العلة التي من اجلها احتل الجسد المكانة الرفيعة ليمثل تاريخ الفن بشكل عام، والعلاقة التي مابين الجسد والمعنى في التاريخ ذاته ، فما هي إلا علاقة تلازمية، وقد ثبت استحالة الانفصال في هذه العلاقة؛ لان التلازم هنا هو من قبيل اللزوم البين غير المفارق.
اذن فالسؤال الذي يشغل مساحة الذهن هو سؤال في الحقيقة عن الواسطة التي تم بها ربط الجسد بالصورة او ربط المعنى بالتصور
===
جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
احمد جمعة 
2011
===

تعليقات