ثانيا : الوعي الجمالي والوعي الديني (فن القرية).


يذكر المؤرخون في ما يتعلق بحدود البحث المرتبط بمستوطنات الحضارة (الرافدينية- المصرية- الإغريقية)، أنها بدأت بمرحلة زمنية متقاربة في حدودها التاريخية، غير أن فنون القرية الأقدم وجدّت في قرية (حسونة) في شمال العراق، على يد ألآثاري العراقي الأستاذ المرحوم (فؤاد سفر)[1]، إذ امتدت هذه القرية مساحة موغلة في القدم وهي حدود (7000سنة ق.م).
ومن ثم قسمت فنون هذه الفترة التي أطلق عليها فنون ما قبل الكتابة في العراق، إلى أربعة ادوار وهي دور (حسونة، وسامراء، وحلف، والعبيد)، وفي حضارة وادي النيل كذلك تم العثور على مستوطنات حضارية وجدت فيها أعمالا فنية موزعة ما بين (العمري، سلامة، تُقادة، الفيوم، البداري)[2]، غير أن بلاد الإغريق على الرغم من ذكر المؤرخين إلى قدمها ومرورها بمراحل العصور الحجرية، وتحولاتها من الصيد إلى الزراعة في العصر الحجري الحديث (Neolithic)، وأنها تعود إلى الألف السابعة قبل الميلاد كذلك، إلا أن أقدم منتج فني عثرت عليه يعود إلى (800 سنة ق م)[3]، وعليه فإننا في هذه المرحلة سوف لن نولي اهتمام لبنية الأشكال في الفن الإغريقي، لعدم العثور على منجزات شكلية، إلا القليل كما سيأتي لاحقا.
إن المسألة الأهم هنا هي أن اللحظة الدينية بدأت تتكون بشكل واضح في هذه الفترة، وأخذت تتحول القوى الطبيعية الكامنة في الأشياء إلى (فتشات)،" إن الفتش كيان متميز، يتكون من جسم مادي واحد، (جزء خاص)، ومن مغزى كلي يختفي وراءه، وهو المضمون الروحي"[4] بمعنى أن كل شيء في هذا الوجود تكمن فيه قوى غيبية، ولهذا يجب تمثيلها في عدد يتوافق مع ما هو ذي قوى، فوجدت آلهة للخصب وآلهة للماء، وأخرى للموت وغير ذلك[5]. ولكن كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة، ظاهرة وجود ما هو (مادي) ليمثل ما هو(غير مادي).
هنا نجد أننا في مرحلة التعقيد والتداخل الفكري، ما بين ما هو مادي وما بين ما هو ابعد من المادي، بمعنى أننا في تداخل ما بين(الأشكال والطقوس) من جهة و(الإله) الكامن خلف هذه الأشكال التعبدية من جهة أخرى، أو لنقل أن التداخل هنا واقع ما بين(المادة)و(المعنى).
وهذا التعقيد والتداخل في (الوعي الديني) سرعان ما وجدت له آثار على (الوعي الجمالي)، ولأن الفكر أو الوعي الديني هنا قد ارتبط بما هو غيبي، صارَّ من غير الممكن تمثيل هذه الغيبيات في بنيات شكلية تشابه الواقع، وإنما على فناني هذه المرحلة أن يبتكروا أشكالا بعيدة عن الواقع والمحاكاة، ولذا نجدهم قد اشتغلوا وفق بنية شكلية غرائبية، يدور محتواها بشكل عام أو يتمركز في مفهوم الولادة والخصب.
وعند النظر إلى بنية الأشكال في كل من بلاد وادي الرافدين ووادي النيل، سنجد ثمة مشتركات أو سمات شكلية مشتركة ما بين الفنين لهذه الحضارتين. ولعل الأمر هو كذلك في بلاد الإغريق، مع الفارق ما بين الحضارة الإغريقية والحضارتين الشرقيتين في(العراق و مصر) من ناحية الزمن التاريخي. 
ففي هذه الفخاريات نجد مجموعة من البنيات الشكلية اعتمدت على نوعين من الخط وهما المستقيم والمنحني، وعلى تكوينات شكلية تمثلت في (الدائرة، المربع، المثلث)، ولو تتبعنا سلسلة الأشكال في الحضارات الثلاثة، سنجد أن هذه الانتقالة الشكلية من المحاكاة إلى التجريد لهي بالفعل حدث يستحق الوقوف للإحاطة به.
بعد أن استقر الإنسان في مستوطناته الأولى (القرى الزراعية)، بدأ يتكون لدينا نوعان من المفاهيم وهما (الحسي والعقلي) وبعد أن كان (الحسي) في المرحلة السابقة يتصدر الوعي فوجد (الجمالي)، وهنا في بواكير الانتقالات الشكلية في(الجمالي)، شاهدنا كيف وجد الاشتغال الرمزي، وفي القرية اتضح لنا أن (الجمالي) قد تطور في بنيات شكلية تجريدية، نتيجةً لولادة اللحظات الدينية، التي انعكست في الفن بشكل مباشر، وفي تطور الوعي الديني لاحقا، سنجد أن (الوعي الجمالي) سينتقل انتقاله أخرى، تحتل الغرائبية فيها موقعا شديد التأثير في فنون القرية.
إن في تكون الوعي الديني في الحضارة الإنسانية، يعني هذا انتقالة فكرية أخرى توضع في رصيد (المنطقي) والتي ستتبلور حينها إلى منظومة من الأحكام التعبدية، كما سيأتي في مرحلة (الحضارة المتكاملة)، أو في فنون ما بعد الكتابة، وان في تكون هذا (الوعي الديني) نشأ الارتباط الأول ما بين الإنسان والقوى التي كانت لها تأثيرها (الحسي- والغيبي) عليه، و لربما يعني هذا الارتباط مع هذه القوى المتصرفة، فعل الضرورة التي تلازم الوعي المتخصص (بالجمالي)، بمعنى أن مرحلة الحس استلزمت بالضرورة وجود الوعي (الجمالي) ومرحلة الاعتقاد (او العقل) استلزمت بالضرورة كذلك وجود الوعي (الديني).
أجد أن الاشتغال الاستنباطي هنا يحتم عليّ الدخول في مضامين الأشكال التي تشغل الجزء الثاني من مرحلة القرية أو هي التطور الطبيعي في سلسلة حلقات الوعي (الجمالي- والديني)، ولكن قبل ذلك أجد أنه لمن المناسب بيان أهمية البيئة و" العوامل المناخية المنذرة بالجفاف بعد انتهاء فترة العصور الجليدية في أوربا، اضطرت الإنسان بالهجرة من مقراته في(...)الهضاب والسلاسل الجبلية إلى الأراضي السهلة الخصبة على جانبي الأنهار"[6] كان لها تأثيرها المباشر في تكون مثل هذه العبادات، إلا أن سببا رئيسيا آخر أدى لوجود مثل هذه الاعتقادات وهو(الموت)أو(الفناء)أو(العدم)، وهنا لم ترتبط المسألة التعبدية فقط في طلب الخصب، وإنما في الخوف من المجهول أيضا، وقد رافق هذا التطور الديني، تطورا في بنية الأشكال كذلك.
في تقديري أن التطور في الوعيين (الديني والجمالي)، نشأ من خلال مفهوم (التكرار) ومفهوم (التحديث) لبنية كل منهما في المرحلة الأولى على الأقل، ولو أخذنا هنا مثالا للتشبيه وليس للقياس وهو (حكاية الأم) التي تتلوها للأطفال قبل النوم، ومسألة تكرارها في كل يوم، هذه الحكاية بعد أن يستوعب أطرافها الطفل، سرعان ما يتذمر عند تلاوتها في المرة القادمة. ولذا على الأم أن تبدأ وعلى الفور بإعادة تحديث علاقات أو أطراف هذه الحكاية، كأن تحذف منها أو تضيف لها ثيّماً ترتبط أو تتوافق مع المساحة التصورية التي تعتقدها في ولدها.
وبالفعل نجد أن هذين المفهومين قد حركا مفاصل الوعي (الجمالي- الديني)، تلبيةً لحاجات (الوعي الاجتماعي)، إذ في أواخر هذه المرحلة (ما قبل التأريخ) تكونت اللبنات الأولى للنظام الاجتماعي كما يذكر ذلك المفكرون. وذلك لتعلم الزراعة وغير ذلك، حتى تكونت لنا المدن، اعتمادا على تكرار الحدث وتكرار الوقوع في الملل أو الخطأ لتجاوزهما في تحديثات ساهمت في تطور الحضارة.
وألان لو نظرنا إلى الإشكال التي تمثل الجزء الثاني من فن القرية، سنجد أنها متشابهة فعلا فيما بينها كذلك، وكأن تطور الإنسان متساوي نوعا ما في ما بين الحضارات، أو أنها تعكس ميكانزمات الواقع وبشكل مطرد.
و لا أرى في نماذج الفن الإغريقي ذلك العمق الحضاري الذي تعكسه بنية الأشكال كما في حضارتي بلاد وادي الرافدين والنيل.
ولو تتبعنا بنية الأشكال في استقراء حدسي وبشكل عاجل، من فن الكهوف إلى المرحلة الهندسية الأولى، والمرحلة الغرائبية الثانية في فن القرية، لوجدنا أن التداخل في تطور بنية الأشكال انتقل من المحاكاة (الحس)، إلى التجريدات (العقل)، ثم إلى مرحلة يمكن أن نسميها وسيطة ما بين (المحاكاة والتجريد)، بمعنى أن هذه الأشكال لم تعتمد على الذاكرة وصور المخيلة الأولى التي ارتبط بالطبيعة، ولم تعتمد كذلك على التنظيم في بنية الأشكال الهندسية المثالية، في ابتكارات مجردة في المخيلة الثانية، وإنما وبفعل تطور(الوعي الديني) وبواعث ولادة التخطيط المسبق لنشوء البنية الاجتماعية، (وجود الوعي الاجتماعي)، حدثت هذه التركيبة الشكلية كأنها أشكالا قادمة من الفضاء؛ وذلك لان تركيبها الشكلي لا هو بعيد عن الحسي، وغير منفك الارتباط عن ما هو عقلي لكونها تعبدية.
كما أن هذه الأشكال تنوعت ما بين قوى الخصب (الذكورية والانوثوية) أو الأنثوية، وذلك لتفعيل الخطاب ما بين ما هو أرضي وما بين ما هو سماوي، لتحصيل الحياة والعيش في مأمن من الفناء أو الموت أو العدم، ولهذا نجد أن هذه التراكيب الشكلية قد تطور فيها النظام الرمزي كذلك، للتداخل ما بين (الجمالي- والديني- والاجتماعي) في بنية الوعي الإنساني.
بعد كل ما تقدم أجد أهمية في طرح هذه المسألتين:
الأولى: تتعلق في بنية (التطور)، المرتبط باللحظات (الجمالية، الدينية)، واعتماداً على ما سبق نجد أن هذه اللحظات وان قلنا عنها أنها تتداخل في سرعةٍ فيما بينها، إلا أنها بالقياس إلى الحضارة الحديثة التي نعيشها اليوم، تعد بطيئة، بمعنى أن الانتقال من بنية إلى أخرى في اللحظات (الجمالية الدينية) التي تقدمت، حدث أو دار في أكثر من أربعة ألاف سنة، بينما من التكعيبية حتى اليوم نجد ألاف المتغيرات وفي مختلف الجوانب.
وهذا يرجع في نظري إلى قلة الوسائط التي كانت توفرها المعطيات(البيئة) لإنسان الكهف والقرية، فضلا عن غياب (الاجتماعي) و(المنطقي) لحد الآن، صحيح أن الاجتماعي قد ظهرت بوادره في العقود أو الاتفاقات التعبدية، إلا انه لم يتبلور بشكله النموذجي حتى الآن، ولربما هو في المرحلة (الشبيهة بالكتابة) يتبلور بشكل أفضل.
غير أن هذا التفاعل مع ما هو (جمالي) و(ديني)، أو مع ما هو محسوس ومعقول يفصح عن أصالته ونقائه ونشاطه وحيويته وديمومته في أرض الشرق بشكل عام و(العراق، ومصر) بشكل خاص، وغالبا ما تكون نقاط الشروع أو البداية هي الأكثر صعوبة والأكثر تأثيرا في الوقت ذاته.
الثانية تتعلق في بنية (الأشكال)، ففي البداية وجدنا (المحاكاة)، وبعد ذلك وجدنا (التجريد)، ومن ثم وجدنا أشكالا قلنا عنها أنها تمثل مرحلة وسط بين المحاكاة والتجريد، وهي لو صح القول لازالت تفصح عن قيم شكلية لاتشبيهية، بمعنى أن الفن منذ اشتغاله الأول في فن الكهوف قد بين لنا مساحة اشتغاله الكلية أو بشكل كلي، وهي (التشبيه، واللاتشبيه)، أو لنقل أن الوعي الجمالي ارتبط أولا (بالمتغير) الحسي، ثم ارتبط ثانيا (بالثابت) العقلي، لتحقيق طرفي المعادلة في هذا الكون.
ومن جهة ثانية نجد أن الوعي الديني كذلك قد بين لنا بعمليات الكشف التعبدية، عن وجود عالمين (سفلي متغير) و(علوي ثابت)، غير أن هذا الكشف لم يأتي هكذا فجأة إلا بعد أن تكامل الحسي في الوعي الأول، وكانت الأشكال الفنية تخبرنا عن هذا التكامل شيئا فشيئا. من خلال تداخل كل من (الجمالي والديني).



جامعة بغداد
كلية الفنون الجميلة
احمد جمعة


[1] ينظر: د. زهير صاحب، الفنون التشكيلية العراقية، عصر قبل الكتابة، سلسلة عشتار، ص9.
[2] د. زهير صاحب، الفنون الفرعونية، دار مجدلاوي، عمان، ص29.
[3] ينظر: د. ناصر الشاوي، تاريخ الفن الإغريقي، وزارة التعليم العلي والبحث العلمي، 2000، ص7-42.
[4] غاتشف، الوعي والفن،  ص21.
[5] للمزيد يراجع: جفري بارندر، المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ت: إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، عدد 173، الكويت، 1993.
[6] د. زهير صاحب، الفنون الفرعونية، ص19.

تعليقات